فصل: بَابُ الِاعْتِكَافِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ:

(وَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ أَفْطَرَ وَقَضَى) فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ. هُمَا يَقولانِ: إنَّهُ نَذْرٌ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَلَنَا أَنَّهُ نَذَرَ بِصَوْمٍ مَشْرُوعٍ وَالنَّهْيُ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ تَرْكُ إجَابَةِ دَعْوَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَصِحُّ نَذْرُهُ لَكِنَّهُ يُفْطِرُ احْتِرَازًا عَنْ الْمَعْصِيَةِ الْمُجَاوِرَةِ ثُمَّ يَقْضِي إسْقَاطًا لِلْوَاجِبِ، وَإِنْ صَامَ فِيهِ يَخْرُجُ عَنْ الْعُهْدَةِ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ كَمَا الْتَزَمَهُ. (وَإِنْ نَوَى يَمِينًا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) يَعْنِي. إذَا أَفْطَرَ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ سِتَّةٍ: إنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا أَوْ نَوَى النَّذْرَ لَا غَيْرَ، أَوْ نَوَى النَّذْرَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ يَمِينًا يَكُونُ نَذْرًا لِأَنَّهُ نَذَرَ بِصِيغَتِهِ. كَيْفَ وَقَدْ قَرَّرَهُ بِعَزِيمَتِهِ؟ وَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ وَنَوَى أَنْ لَا يَكُونَ نَذْرًا يَكُونُ يَمِينًا، لِأَنَّ الْيَمِينَ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ وَقَدْ عَيَّنَهُ وَنَفَى غَيْرَهُ، وَإِنْ نَوَاهُمَا يَكُونُ نَذْرًا وَيَمِينًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ نَذْرًا، وَلَوْ نَوَى الْيَمِينَ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَكُونُ يَمِينًا. لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ النَّذْرَ فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْيَمِينَ مَجَازٌ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ الْأَوَّلُ عَلَى النِّيَّةِ، وَيَتَوَقَّفَ الثَّانِي فَلَا يَنْتَظِمُهُمَا، ثُمَّ الْمَجَازُ يَتَعَيَّنُ بِنِيَّتِهِ، وَعِنْدَ نِيَّتِهِمَا تَتَرَجَّحُ الْحَقِيقَةُ. وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْن الْجِهَتَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ إلَّا أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ، فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ، كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ):
وَجْهُ تَقْدِيمِ بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَاجِبِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً عَلَى الْوَاجِبِ عِنْدَ إيجَابِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ.
قولهُ: (فَهَذَا النَّذْرُ صَحِيحٌ) رَتَّبَهُ بِالْفَاءِ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ قولهِ: قَضَى: أَيْ لَمَّا لَزِمَ الْقَضَاءُ كَانَ النَّذْرُ صَحِيحًا.
قولهُ: (لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: عَنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ الْأَنْسَبُ بِوَضْعِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمِ النَّحْرِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي النُّسْخَةِ الْأُخْرَى مُشَارٌ بِهِ إلَى مَعْهُودٍ فِي الذِّهْنِ بِنَاءً عَلَى شُهْرَةِ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيِّ عَنْ صِيَامِهَا، وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ، وَيُنَاسِبُ النُّسْخَةَ الْأُولَى الِاسْتِدْلَال بِمَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْخُدْرِيِّ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ الْأَضْحَى وَصِيَامِ يَوْمِ الْفِطْرِ».
وَفِي لَفْظٍ لَهُمَا سَمِعْتُهُ يقول: «لَا يَصِحُّ الصِّيَامُ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمُ الْأَضْحَى وَيَوْمُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ» وَيُنَاسِبُ النُّسْخَةَ الْأُخْرَى الِاسْتِدْلَال بِمَا سَيَأْتِي مِنْ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ» إلَخْ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الْمُجَرَّدَ عَنْ الصَّوَارِفِ لَيْسَ مُوجِبُهُ بَعْدَ طَلَبِ التَّرْكِ سِوَى كَوْنِ مُبَاشَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَعْصِيَةً سَبَبًا لِلْعِقَابِ لَا الْفَسَادِ، أَمَّا لُغَةً فَظَاهِرٌ لِظُهُورِ حُدُوثِ مَعْنَى الْفَسَادِ، وَأَمَّا شَرْعًا: فَكَذَلِكَ بَلْ لَا يَسْتَلْزِمُهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَلَا الْمُعَامَلَاتِ لِتَحَقُّقِ مُوجِبِهِ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا: أَعْنِي الْمَنْعَ الْمُنْتَهِضَ سَبَبًا لِلْعِقَابِ مَعَ الصِّحَّةِ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَالصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَمَعَ الْعَبَثِ الَّذِي لَا يَصِلُ إلَى إفْسَادِ الصَّلَاةِ، وَكَثِيرٍ. فَعُلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَاهُ بَلْ إنَّمَا يَثْبُتُ لِأَمْرٍ آخَرَ هُوَ كَوْنُهُ لِأَمْرٍ فِي ذَاتِهِ، فَمَا لَمْ يُعْقَلْ فِيهِ ذَلِكَ بَلْ كَانَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ نَفْسِ الْفِعْلِ مُتَّصِلٍ بِهِ لَا يُوجِبُ فِيهِ الْفَسَادَ، وَإِلَّا لَكَانَ إيجَابًا بِغَيْرِ مُوجِبٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ حِينَئِذٍ مُجَرَّدُ مُوجِبِهِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ أَوْ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ بِحَسَبِ حَالِهِ مِنْ الظَّنِّيَّةِ وَالْقَطْعِيَّةِ. إذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ تَمَامَ مُوجِبِ النَّهْيِ حَتَّى قُلْنَا إنَّهُ يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْعِقَابِ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْفَسَادُ لَوْ فَعَلَ لِعَدَمِ مُوجِبِهِ لِعَقْلِيَّةِ أَنَّهُ لِأَمْرٍ خَارِجٍ فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ لِاعْتِبَارِهِ لَا لِنَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِمَا فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ النَّذْرُ أَثَرًا لِتَصَوُّرِ الصِّحَّةِ، وَيَجِبُ أَنْ لَا يَفْعَلَ لِلْمَعْصِيَةِ فَيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِالِانْتِهَاضِ سَبَبًا لِلْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ وَمِنْهَا هَذَا، وَكَمْ مَوْضِعٍ يَثْبُتُ فِيهِ الْوُجُوبُ لِيَظْهَرَ أَثَرُهُ فِي الْقَضَاءِ لَا الْأَدَاءِ لِحُرْمَتِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يُوجِدُكَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ. فَلَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْقَوَاعِدِ التَّحْقِيقِيَّةِ، وَغَايَةُ مَا بَقِيَ بَيَانُ أَنَّ النَّهْيَ فِيهِ لِأَمْرٍ خَارِجٍ، وَلَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي هُوَ مَنْعُ النَّفْسِ مُشْتَهَاهَا لَا يُعْقَلُ فِي نَفْسِهِ سَبَبًا لِلْمَنْعِ، بَلْ كَوْنُهُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَسْتَلْزِمُ الْإِعْرَاضَ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْآثَارِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَضْيَافُ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: نَذَرَ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَهُوَ مَنْفِيٌّ شَرْعًا فَلَا وُجُودَ لَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ، أَمَّا الْأُولَى: فَظَاهِرَةٌ. وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِمَا فِي سُنَنِ الثَّلَاثَةِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةٍ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ» قُلْنَا: الْمُرَادُ نَفْيُ جَوَازِ الْإِيفَاءِ بِهِ نَفْسِهِ لَا نَفْيُ انْعِقَادِهِ، لِمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ النَّسَائِيّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «النَّذْرُ نَذْرَانِ، فَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلَّهِ فِيهِ الْوَفَاءُ، وَمَنْ كَانَ نَذَرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ لِلشَّيْطَانِ فَلَا وَفَاءَ وَيُكَفِّرُهُ مَا يُكَفِّرُ الْيَمِينَ» فَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ فِي النَّصِّ يُفِيدُ أَنَّهُ انْعَقَدَ وَلَمْ يُلْغَ، وَأَنَّ الْمَنْفِيَّ الْوَفَاءُ بِهِ بِعَيْنِهِ، فَكَذَا فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَ وِزَانَ قولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ» مَعَ أَنَّهَا تَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ. غَيْرَ أَنَّ الِانْعِقَادَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَكُونُ لِأَمْرَيْنِ: لِلْقَضَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ جِنْسُ الْمَنْذُورِ مِمَّا يَخْلُو بَعْضُ أَفْرَادِهِ عَنْ الْمَعْصِيَةِ كَمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ وَهُوَ الْجِنْسُ كَذَلِكَ فَيَجِبُ الْفِطْرُ وَالْقَضَاءُ فِي يَوْمٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، وَلِلْكَفَّارَةِ إنْ كَانَ لَا يَخْلُو شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِهِ عَنْهَا كَالنَّذْرِ بِالزِّنَا وَبِالسُّكْرِ إذَا قَصَدَ الْيَمِينَ فَيَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ، وَهُوَ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ وَإِلَّا فَيَلْغُو ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي انْعِقَادِهِ، وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَنْعَقِدَ مُطْلَقًا لِلْكَفَّارَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْفِعْلُ، وَعَلَيْهِ مَشَى الْمَشَايِخُ. قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي كَقولهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا كَانَ يَمِينًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ.اهـ. وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُ الْيَمِينُ بِلَفْظِ النَّذْرِ إلَّا بِالنِّيَّةِ فِي نَذْرِ الطَّاعَةِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ عَلَى مَا هُوَ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ، فَلَا تُجْزِئُ الْكَفَّارَةُ عَنْ الْفِعْلِ. وَبِهِ أَفْتَى السُّغْدِيُّ، وَهُوَ الظَّاهِرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَقَالَ: تَجِبُ فِيهِ الْكَفَّارَةُ، قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهَذَا اخْتِيَارِي لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى بِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ. قَالَ: وَهُوَ اخْتِيَارُ الصَّدْرِ الشَّهِيدِ فِي فَتَاوَاهُ الصُّغْرَى، وَبِهِ يُفْتَى. وَعَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ يَصُومُ يَوْمَ النَّحْرِ لَكِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِمَا ذُكِرَ لِدَلِيلٍ عِنْدَهُمْ يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَعَلَى هَذَا فَمَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّ شَرْطَ النَّذْرِ كَوْنُهُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْصِيَةٍ كَوْنُ الْمَعْصِيَةِ بِاعْتِبَارِ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ عَنْهَا، وَإِذَا صَحَّ النَّذْرُ فَلَوْ فَعَلَ نَفْسَ الْمَنْذُورِ عَصَى وَانْحَلَّ النَّذْرُ كَالْحَلِفِ بِالْمَعْصِيَةِ يَنْعَقِدُ لِلْكَفَّارَةِ، فَلَوْ فَعَلَ الْمَعْصِيَةَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهَا سَقَطَتْ وَأَثِمَ.
قولهُ: (وَلَهُمَا أَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ) الْكَائِنَتَيْنِ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَهُوَ لِلَّهِ عَلَيَّ كَذَا جِهَةُ الْيَمِينِ وَجِهَةُ النَّذْرِ (لِأَنَّهُمَا) أَيْ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ (يَقْتَضِيَانِ الْوُجُوبَ) أَيْ وُجُوبَ مَا تَعَلَّقَا بِهِ، لَا فَرْقَ سِوَى. (أَنَّ النَّذْرَ يَقْتَضِيهِ لِعَيْنِهِ) وَهُوَ وَفَاءُ الْمَنْذُورِ لِقولهِ تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (وَالْيَمِينَ لِغَيْرِهِ) وَهُوَ صِيَانَةُ اسْمِهِ تَعَالَى، وَلَا تَنَافِيَ لِجَوَازِ كَوْنِ الشَّيْءِ وَاجِبًا لِعَيْنِهِ وَلِغَيْرِهِ، كَمَا إذَا حَلَفَ لَيُصَلِّيَنَّ ظُهْرَ هَذَا الْيَوْمِ. (فَجَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَمَا جَمَعْنَا بَيْنَ جِهَتَيْ التَّبَرُّعِ وَالْمُعَاوَضَةِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ) حَيْثُ اُعْتُبِرَتْ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ لِجِهَةِ التَّبَرُّعِ، الْبُطْلَانُ بِالشُّيُوعِ وَعَدَمُ جَوَازِ تَصَرُّفِ الْمَأْذُونِ فِيهَا. وَاشْتِرَاطُ التَّقَابُضِ، وَالثَّلَاثَةُ لِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ الرَّدُّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالرُّؤْيَةُ، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ التَّنَافِي مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ الْوُجُوبَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْيَمِينُ وُجُوبٌ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلِّقِهِ الْكَفَّارَةُ، وَالْوُجُوبُ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ النَّذْرَ لَيْسَ يَلْزَمُ بِتَرْكِ مُتَعَلِّقِهِ ذَلِكَ، وَتَنَافِي اللَّوَازِمِ أَقَلُّ مَا يَقْتَضِي التَّغَايُرَ فَلَا بُدَّ أَنْ لَا يُرَادَا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَنُخْبَةُ مَا قَرَّرَ بِهِ كَلَامَ فَخْرِ الْإِسْلَامِ هُنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُبَاحِ وَهُوَ مَعْنَى الْيَمِينِ لَازِمٌ لِمُوجَبِ صِيغَةِ النَّذْرِ، وَهُوَ إيجَابُ الْمُبَاحِ فَيَثْبُتُ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا لِلصِّيغَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرَادَ هُوَ بِهَا وَيُسْتَعْمَلَ فِيهِ، وَلُزُومُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِيهِمَا، وَالِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ بِلَازِمٍ فِي ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ، وَحِينَئِذٍ فَقَدْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الْمُوجَبُ فَقَطْ، وَيُلَازِمُ الْمُوجَبَ الثَّابِتَ دُونَ اسْتِعْمَالٍ فِيهِ الْيَمِينُ، فَلَا جَمْعَ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ إلَّا أَنَّ هَذَا يَتَرَاءَى مَغْلَطَةً، إذْ مَعْنَى ثُبُوتُ الِالْتِزَامِيِّ غَيْرُ مُرَادٍ لَيْسَ إلَّا خُطُورَةً عِنْدَ فَهْمِ مَلْزُومِهِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مَحْكُومًا بِنَفْيِ إرَادَتِهِ لِلْمُتَكَلِّمِ، وَالْحُكْمُ بِذَلِكَ يُنَافِيهِ إرَادَةُ الْيَمِينِ بِهِ، لِأَنَّ إرَادَةَ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ إرَادَةُ تَحْرِيمِ الْمُبَاحِ هِيَ إرَادَةُ الْمَدْلُولِ الِالْتِزَامِيِّ عَلَى وَجْهٍ أَخَصَّ مِنْهُ حَالَ كَوْنِهِ مَدْلُولًا الْتِزَامِيًّا، فَإِنَّهُ أُرِيدَ عَلَى وَجْهٍ تَلْزَمُ الْكَفَّارَةُ بِخُلْفِهِ، وَعَدَمُ إرَادَةِ الْأَعَمِّ تُنَافِيهِ إرَادَةُ الْأَخَصِّ، أَعْنِيَ تَحْرِيمَهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ كَوْنِهِ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ مَعْنًى. نَعَمْ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا فُرِضَ عَدَمُ قَصْدِ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ التَّلَفُّظِ سِوَى النَّذْرِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّلَفُّظِ عَرَضَ لَهُ إرَادَةُ ضَمِّ الْآخَرِ عَلَى فَوْرِهِ، لَكِنَّ الْحُكْمَ وَهُوَ لُزُومُهُمَا لَا يَخُصُّ هَذِهِ الصُّورَةَ، فَلِذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عَدَلَ صَاحِبُ الْبَدَائِعِ عَنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ فَقَالَ:
النَّذْرُ مُسْتَفَادٌ مِنْ الصِّيغَةِ وَالْيَمِينُ مِنْ الْمُوجَبِ، قَالَ: فَإِنَّ إيجَابَ الْمُبَاحِ يَمِينٌ كَتَحْرِيمِهِ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ يَعْنِي قوله تَعَالَى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلَى أَنْ قال: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} لَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَفْسِهِ مَارِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ الْعَسَلَ، فَأَفَادَ أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِاللَّفْظِ مُوجَبُهُ وَهُوَ إيجَابُ الْمُبَاحِ، وَأُرِيدَ بِنَفْسِ إيجَابِ الْمُبَاحِ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْمُوجَبِ كَوْنُهُ يَمِينًا قَالَ: وَمَعَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا أُرِيدَ بِهِ لَا جَمْعَ، يَعْنِي حَيْثُ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ إيجَابُ الْمُبَاحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَبِالْإِيجَابِ نَفْسِهِ كَوْنُهُ يَمِينًا لَا جَمْعَ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ مَتَى أُرِيدَ الِالْتِزَامِيُّ لِيُرَادَ بِهِ الْيَمِينُ لَزِمَ الْجَمْعُ فِي الْإِرَادَةِ بِاللَّفْظِ، إذْ لَيْسَ مَعْنَى الْجَمْعِ إلَّا أَنَّهُ أُرِيدَ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ، ثُمَّ لَا يُخَالُ أَنَّهُ قِيَاسٌ لِتَعْدِيَةِ الِاسْمِ لِلْمُتَأَمِّلِ. وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ لِأَنَّ إرَادَةَ الْإِيجَابِ عَلَى أَنَّهُ يَمِينُ إرَادَتِهِ عَلَى وَجْهٍ هُوَ أَنْ يَسْتَعْقِبَ الْكَفَّارَةَ بِالْخُلْفِ وَإِرَادَتُهُ مِنْ اللَّفْظِ نَذْرًا إرَادَتُهُ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ لَا يَسْتَعْقِبَهَا بَلْ الْقَضَاءُ وَذَلِكَ تَنَافٍ، فَيَلْزَمُ إذَا أُرِيدَ يَمِينًا وَثَبَتَ حُكْمُهَا شَرْعًا وَهُوَ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِالْخُلْفِ أَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ نَذْرًا إذْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ فِيهِ.

متن الهداية:
(وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا) لِأَنَّ النَّذْرَ بِالسَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ نَذْرٌ بِهَذِهِ الْأَيَّامِ، وَكَذَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ لَكِنَّهُ شَرَطَ التَّتَابُعَ، لِأَنَّ الْمُتَابَعَةَ لَا تَعْرَى عَنْهَا لَكِنْ يَقْضِيهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ مَوْصُولَةً تَحْقِيقًا لِلتَّتَابُعِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَيَتَأَتَّى فِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلنَّهْيِ عَنْ الصَّوْمِ فِيهَا، وَهُوَ قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «أَلَا لَا تَصُومُوا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَقَدْ بَيَّنَّا الْوَجْهَ فِيهِ وَالْعُذْرَ عَنْهُ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ لَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَلْتَزِمُهُ الْكَمَالُ، وَالْمُؤَدَّى نَاقِصٌ لِمَكَانٍ النَّهْيِ، بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّنَهَا لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِوَصْفِ النُّقْصَانِ فَيَكُونُ الْأَدَاءُ بِالْوَصْفِ الْمُلْتَزَمِ. قَالَ: (وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ إنْ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا) وَقَدْ سَبَقَتْ وُجُوهُهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ هَذِهِ السَّنَةِ) سَوَاءٌ أَرَادَهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ يَقول صَوْمُ يَوْمٍ فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ سَنَةً، وَكَذَلِكَ إذْ أَرَادَ أَنْ يَقول كَلَامًا فَجَرَى عَلَى لِسَانِهِ النَّذْرُ لَزِمَهُ لِأَنَّ هَذِهِ النَّذْرِ جِدٌّ كَالطَّلَاقِ (أَفْطَرَ يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَقَضَاهَا) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَالَتْهُ قَضَتْ مَعَ هَذِهِ الْأَيَّامِ أَيَّامَ حَيْضِهَا، لِأَنَّ تِلْكَ السَّنَةَ قَدْ تَخْلُو عَنْ الْحَيْضِ فَصَحَّ الْإِيجَابُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ خِلَافُ زُفَرَ فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَنْهُ فِي قولهَا أَنْ أَصُومَ غَدًا فَوَافَقَ حَيْضَهَا لَا تَقْضِي. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَقْضِيهِ لِأَنَّهَا لَمْ تُضِفْهُ نَذْرًا إلَى يَوْمِ حَيْضِهَا، بَلْ إلَى الْمَحَلِّ غَيْرَ أَنَّهُ اتَّفَقَ عُرُوضُ الْمَانِعِ، فَلَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْإِيجَابِ حَالَ صُدُورِهِ فَتَقْضِي، وَكَذَا إذَا نَذَرَتْ صَوْمَ الْغَدِ وَهِيَ حَائِضٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ: يَوْمَ حَيْضِي لَا قَضَاءَ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِإِضَافَتِهِ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ، فَصَارَ كَالْإِضَافَةِ إلَى اللَّيْلِ، ثُمَّ عِبَارَةُ الْكِتَابِ تُفِيدُ الْوُجُوبَ لِمَا عُرِفَ. وَقولهُ فِي النِّهَايَةِ الْأَفْضَلُ فِطْرُهَا، حَتَّى لَوْ صَامَهَا خَرَجَ عَنْ الْعُهْدَةِ تَسَاهُلٌ، بَلْ الْفِطْرُ وَاجِبٌ لِاسْتِلْزَامِ صَوْمِهَا الْمَعْصِيَةَ، وَلِتَعْلِيلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا تَقَدَّمَ الْفِطْرَ بِهَا، فَإِنْ صَامَهَا أَثِمَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا الْتَزَمَهَا نَاقِصَةً، لَكِنْ قَارَنَ هَذَا الِالْتِزَامُ وَاجِبًا آخَرُ وَهُوَ لُزُومُ الْفِطْرِ تَرَكَهُ فَتَحَمَّلَ إثْمَهُ ثُمَّ. هَذَا إذَا قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ فَإِنْ قَالَهُ فِي شَوَّالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمِ الْفِطْرِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صِيَامُ هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ بَلْ صِيَامُ مَا بَقِيَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ذَكَرَهُ فِي الْغَايَةِ.
وَقَالَ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ:
هَذَا سَهْوٌ، لِأَنَّ قولهُ هَذِهِ السَّنَةِ عِبَارَةٌ عَنْ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ وَقْتِ النَّذْرِ إلَى وَقْتِ النَّذْرِ، وَهَذِهِ الْمُدَّةُ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَكُونُ نَذْرًا بِهَا اهـ. وَهَذَا سَهْوٌ، بَلْ الْمَسْأَلَةُ كَمَا هِيَ فِي الْغَايَةِ مَنْقولةٌ فِي الْخُلَاصَةِ، وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَهَذَا الشَّهْرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ سَنَةٍ عَرَبِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ عِبَارَةٌ عَنْ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَخْتَمٌ خَاصَّانِ عِنْدَ الْعَرَبِ، مَبْدَؤُهَا الْمُحَرَّمُ وَآخِرُهَا ذُو الْحِجَّةِ، فَإِذَا قَالَ: هَذِهِ فَإِنَّمَا يُفِيدُ الْإِشَارَةَ إلَى الَّتِي هُوَ فِيهَا، فَحَقِيقَةُ كَلَامِهِ أَنَّهُ نَذْرٌ بِالْمُدَّةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ إلَى آخِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالْمُدَّةُ الْمَاضِيَةُ الَّتِي مَبْدَؤُهَا الْمُحَرَّمُ إلَى وَقْتِ التَّكَلُّمِ فَيَلْغُو فِي حَقِّ الْمَاضِي كَمَا يَلْغُو فِي قولهِ لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ، وَهَذَا فَرْعٌ يُنَاسِبُ هَذَا، لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ الْيَوْمَ أَوْ الْيَوْمَ أَمْسِ لَزِمَ صَوْمُ الْيَوْمِ، وَلَوْ قَالَ: غَدًا هَذَا الْيَوْمَ أَوْ هَذَا الْيَوْمَ غَدًا لَزِمَهُ صَوْمُ أَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ تَفَوَّهَ بِهِ. وَلَوْ قَالَ: شَهْرًا لَزِمَهُ شَهْرٌ كَامِلٌ، وَلَوْ قَالَ: الشَّهْرَ وَجَبَتْ بَقِيَّةُ الشَّهْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّهْرَ مُعَيَّنًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ بِالْحُضُورِ، فَإِنْ نَوَى شَهْرًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ كَلَامَهُ ذَكَرَهُ فِي التَّجْنِيسِ، وَفِيهِ تَأْيِيدٌ لِمَا فِي الْغَايَةِ أَيْضًا، وَلَوْ قَالَ: صَوْمُ يَوْمَيْنِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا صَوْمُ يَوْمِهِ، بِخِلَافِ عَشْرِ حَجَّاتٍ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي الْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قولهُ: (فِي هَذَا الْفَصْلِ) احْتِرَازٌ مِنْ الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَهُوَ مَا إذَا عَيَّنَ السَّنَةَ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ مَوْصُولَةً لِأَنَّ التَّتَابُعَ هُنَاكَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ وَلَا مُلْتَزَمٌ قَصْدًا، بَلْ إنَّمَا يَلْزَمُ ضَرُورَةَ فِعْلِ صَوْمِهَا، فَإِذَا قَطَعَهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ انْتَفَى التَّتَابُعُ الضَّرُورِيُّ بِخِلَافِ التَّتَابُعِ هُنَا، فَإِنَّهُ الْتَزَمَهُ قَصْدًا، فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ شَرْعًا وَجَبَ تَوْفِيرُهُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَلِهَذَا إذَا أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ الْوَاجِبِ الْمُتَتَابِعِ قَصْدًا كَصَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالْمَنْذُورِ مُتَتَابِعًا لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ، وَفِي الْمُتَتَابِعِ ضَرُورَةً كَمَا إذَا نَذَرَ صَوْمَ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ رَجَبَ لَا يَلْزَمُهُ سِوَى مَا أَفْسَدَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ يَأْثَمُ بِذَلِكَ الْإِفْسَادِ، كَمَا إذَا أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ وَهُوَ وَاجِبُ التَّتَابُعِ ضَرُورَةً لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ غَيْرِهِ مَعَ الْمَأْثَمِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ شَهْرٍ رَمَضَانَ فِي الْفَصْلَيْنِ، أَيْ هَذِهِ السَّنَةِ أَوْ سَنَةٍ مُتَتَابِعَةٍ، لِأَنَّ هَذِهِ السَّنَةَ وَالسَّنَةَ الْمُتَتَابِعَةَ لَا تَخْلُو عَنْهُ، فَإِيجَابُهَا إيجَابُهُ وَغَيْرُهُ، فَيَصِحُّ فِي غَيْرِهِ وَيَبْطُلُ فِيهِ لِوُجُوبِهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ابْتِدَاءً.
قولهُ: (وَهُوَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ أَيَّامَ مِنًى صَائِحًا يَصِيحُ: أَنْ لَا تَصُومُوا هَذِهِ الْأَيَّامَ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» أَيْ وِقَاعٍ. وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ هُذَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيَّ عَلَى جَمَلٍ أَوْرَقَ يَصِيحُ فِي فِجَاجِ مِنًى. أَلَا إنَّ الذَّكَاةَ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ، وَلَا تُعَجِّلُوا الْأَنْفُسَ أَنْ تَزْهَقَ، وَأَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَفِي مُسْنَدِهِ سَعِيدُ بْنُ سَلَّامٍ كَذَّبَهُ أَحْمَدُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَذَاقَةَ السَّهْمِيِّ قال: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَاحِلَةٍ أَيَّامَ مِنًى أُنَادِي: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَضَعَّفَهُ بِالْوَاقِدِيِّ، وَفِي الْوَاقِدِيِّ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلَ الْكِتَابِ فِي مَبَاحِثِ الْمِيَاهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْحَجِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ مُنْذِرِ بْنِ جَهْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ خَلَدَةَ عَنْ أُمِّهِ قَالت: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا يُنَادِي: أَيَّامُ مِنًى أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» زَادَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ «وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى».
قولهُ: (وَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّتَابُعُ) أَيْ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ فَعَلَيْهِ صَوْمُ سَنَةٍ بِالْأَهِلَّةِ وَلَمْ يُجْزِهِ صَوْمُ هَذِهِ الْأَيَّامِ، لِأَنَّ الْمُنَكَّرَةَ اسْمٌ لِاثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا لَا بِقَيْدِ كَوْنِ رَمَضَانَ وَشَوَّالٍ وَذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا، فَلَمْ يَكُنْ النَّذْرُ بِهَا نَذْرًا بِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا، ثَلَاثِينَ لِرَمَضَانَ، وَيَوْمَيْ الْعِيدِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ، وَهَلْ يَجِبُ وَصْلُهَا بِمَا مَضَى؟ قِيلَ نَعَمْ. قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّجْنِيسِ: هَذَا غَلَطٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُجْزِيَهُ، وَلَوْ قَالَ: شَهْرًا لَزِمَهُ كَامِلًا أَوْ رَجَبَ لَزِمَهُ هُوَ بِهِلَالِهِ، وَلَوْ قَالَ: جُمُعَةً إنْ أَرَادَ أَيَّامَهَا لَزِمَهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ أَوْ يَوْمَهَا لَزِمَهُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فَقَطْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ تَلْزَمُهُ سَبْعَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهَا تُذْكَرُ لِكُلٍّ مِنْ الْأَمْرَيْنِ، وَفِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ أَغْلَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ.
وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ عَيَّنَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَوْ قَالَ: كُلَّ يَوْمِ خَمِيسٍ أَوْ اثْنَيْنِ فَلَمْ يَصُمْهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ نَوَى الْيَمِينَ فَقَطْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ أَوْ الْيَمِينَ وَالنَّذْرَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ فِي إفْطَارِ الْخَمِيسِ الْأَوَّلِ أَوْ الِاثْنَيْنِ، وَمَا أَفْطَرَ مِنْهُمَا بَعْدُ فَفِيهِ الْقَضَاءُ لَيْسَ غَيْرُ لِانْحِلَالِ الْيَمِينِ بِالْحِنْثِ الْأَوَّلِ، وَبَقَاءِ النَّذْرِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى صَارَ شَيْخًا فَانِيًا أَوْ كَانَ نَذَرَ بِصِيَامِ الْأَبَدِ فَعَجَزَ لِذَلِكَ أَوْ بِاشْتِغَالِهِ بِالْمَعِيشَةِ لِكَوْنِ صِنَاعَتِهِ شَاقَّةً لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيُطْعِمَ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ لِعُسْرَتِهِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الْغَنِيُّ الْكَرِيمُ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ لِشِدَّةِ الزَّمَانِ كَالْحَرِّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَيَنْتَظِرَ الشِّتَاءَ فَيَقْضِيَ، هَذَا. وَيَصِحُّ تَعْلِيقُ النَّذْرِ كَأَنْ يَقول: إذَا جَاءَ زَيْدٌ أَوْ شُفِيَ فَعَلَيَّ صَوْمُ شَهْرٍ، فَلَوْ صَامَ شَهْرًا عَنْ ذَلِكَ قَبْلَ الشَّرْطِ لَا يَجُوزُ عَنْهُ، وَلَوْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ جَازَ تَقْدِيمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبًا فِي الْحَالِ بَلْ عِنْدَ الشَّرْطِ فَالصَّوْمُ قَبْلَهُ صَوْمٌ قَبْلَ السَّبَبِ فَلَا يَجُوزُ، وَالْمُضَافُ يَنْعَقِدُ فِي الْحَالِ، فَالصَّوْمُ قَبْلَ الْوَقْتِ صَوْمٌ بَعْدَ السَّبَبِ فَيَجُوزُ، وَمِنْهُ: أَنْ يَقول: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ رَجَبٍ فَصَامَ قَبْلَهُ عَنْهُ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِهِ، وَأَصْلُ هَذَا مَا قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ الصَّوْمِ أَنَّ التَّعْجِيلَ بَعْدَ السَّبَبِ جَائِزٌ أَصْلُهُ الزَّكَاةُ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، غَيْرَ أَنَّ زُفَرَ لَمْ يُجِزْهُ فِيمَا إذَا كَانَ الزَّمَانُ الْمُعَجَّلُ فِيهِ أَقَلَّ فَضِيلَةً مِنْ الْمَنْذُورِ، وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لِلتَّعْجِيلِ. وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لُزُومَ الْمَنْذُورِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ فَقَطْ، وَجَوَازُ التَّعْجِيلِ بَعْدَ السَّبَبِ بِدَلِيلِ الزَّكَاةِ فَابْتَنَى عَلَى هَذَا إلْغَاءُ تَعْيِينِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْمُتَصَدِّقِ وَالْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، فَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَصُومَ رَجَبًا فَصَامَ عَنْهُ قَبْلَهُ شَهْرًا أَحَطَّ فَضِيلَةً مِنْهُ جَازَ خِلَافًا لَهُمَا، وَكَذَا إذَا نَذَرَ صَلَاةً فِي زَمَانٍ فَضِيلٍ فَصَلَّاهَا قَبْلَهُ فِي أَحَطَّ مِنْهُ جَازَ، أَوْ نَذَرَ رَكْعَتَيْنِ بِمَكَّةَ فَصَلَّاهُمَا فِي غَيْرِهَا جَازَ، أَوْ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَذَا الدِّرْهَمِ غَدًا عَلَى فُلَانٍ الْفَقِيرِ فَتَصَدَّقَ بِغَيْرِهِ فِي الْيَوْمِ عَلَى غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ، خِلَافًا لِزُفَرَ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ بَعْدَمَا أَكَلَ أَوْ بَعْدَمَا حَاضَتْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ قَدِمَ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَلَا رِوَايَةَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ الَّذِي يَقْدَمُ فِيهِ فُلَانٌ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ فَقَدِمَ فُلَانٌ فِي يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ الصَّوْمُ بِنِيَّةِ الشُّكْرِ، وَلَوْ قَدِمَ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ فَنَوَى بِهِ الشُّكْرَ لَا عَنْ رَمَضَانَ بَرَّ بِالنِّيَّةِ وَأَجْزَأَهُ عَنْ رَمَضَانَ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَإِذَا نَذَرَ الْمَرِيضُ صَوْمَ شَهْرٍ فَمَاتَ قَبْلَ الصِّحَّةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ صَحَّ يَوْمًا، تَقَدَّمَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَتَحْقِيقُهَا وَمَنْ نَذَرَ صَوْمَ هَذَا الْيَوْمِ أَوْ يَوْمَ كَذَا شَهْرًا أَوْ سَنَةً لَزِمَهُ مَا تَكَرَّرَ مِنْهُ فِي الشَّهْرِ وَالسَّنَةِ. وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَصَامَ ذَلِكَ مَرَّةً كَفَاهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْأَبَدَ، وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَآخِرِهِ لَزِمَهُ صِيَامُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ، وَكُلُّ صَوْمٍ أَوْجَبَهُ وَنَصَّ عَلَى تَفْرِيقِهِ فَصَامَهُ مُتَتَابِعًا خَرَجَ عَنْ عُهْدَتِهِ وَعَلَى الْقَلْبِ لَا يُجْزِيهِ، وَلَوْ قَالَ: بِضْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ، أَوْ دَهْرًا فَعَلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ، أَوْ الدَّهْرَ فَعَلَى الْعُمْرِ. وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ مِثْلِ شَهْرِ رَمَضَانَ إنْ أَرَادَ مِثْلَهُ فِي الْوُجُوبِ لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ أَوْ فِي التَّتَابُعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ. رَجُلٌ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ فَصَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَقَدْ أَفْطَرَ يَوْمًا وَلَا يَدْرِي أَيَّ يَوْمٍ هُوَ قَضَى خَمْسَةَ أَيَّامٍ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ بِتَأَمُّلٍ يَسِيرٍ.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ) لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَصَارَ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ. وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ يُسَمَّى صَائِمًا حَتَّى يَحْنَثَ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّوْمِ فَيَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ، فَيَجِبُ إبْطَالُهُ فَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يُبْتَنَى عَلَيْهِ، وَلَا يَصِيرُ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ بِنَفْسِ النَّذْرِ وَهُوَ الْمُوجِبُ، وَلَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يُتِمَّ رَكْعَةً، وَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ بِهِ الْحَالِفُ عَلَى الصَّلَاةِ فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمُؤَدَّى وَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقَضَاءِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (مَنْ أَصْبَحَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَخْ) الْمَقْصُودُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ الْأَيَّامِ الْمَنْهِيَّةِ كَيَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ بِالْإِفْسَادِ، بِخِلَافِ نَذْرِهَا فَإِنَّهُ يُوجِبُهُ فِي غَيْرِهَا، وَبِخِلَافِ الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ فَإِنَّ إفْسَادَهَا مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مَكْرُوهٍ هَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ كَالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ لَيْسَ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ كَالشُّرُوعِ فِي صَوْمِ هَذِهِ الْأَيَّامِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ التَّفْصِيلُ أَنَّ وُجُوبَ الْقَضَاءِ يَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْإِتْمَامِ فَإِذَا فَوَّتَهُ وَجَبَ جَبْرُهُ بِالْقَضَاءِ، وَوُجُوبُ الْإِتْمَامِ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مُنْتَفٍ، بَلْ الْمَطْلُوبُ بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ قَطْعُهُ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِهِ مُرْتَكِبٌ لِلنَّهْيِ لِصِدْقِ اسْمِ الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ وَالصِّيَامِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِمْسَاكِ بِنِيَّةٍ. وَلِذَا حَنِثَ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَصُومُ، وَإِنْ لَمْ يَحْنَثْ بِهِ فِي يَمِينِهِ لَا يَصُومُ صَوْمًا، وَلَا يَصِيرُ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ النَّذْرِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ حَتَّى يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ الصَّلَاةُ، وَالصَّلَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ مَجْمُوعِ أَرْكَانٍ مَعْلُومَةٍ فَمَا لَمْ يَفْعَلْهَا لَا تَتَحَقَّقُ، لِأَنَّ وُجُودَ الشَّيْءِ بِوُجُودِ جَمِيعِ حَقِيقَتِهِ، فَإِذَا قَطَعَهَا فَقَدْ قَطَعَ مَا لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ بَعْدَ قَطْعِهِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَمَلِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِالْإِبْطَالِ فَيَلْزَمُ بِهِ الْقَضَاءُ إلَّا أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ بَعْدَ السَّجْدَةِ لَا يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَالْجَوَابُ مُطْلَقٌ فِي الْوُجُوبِ.


.بَابُ الِاعْتِكَافِ:

قَالَ: (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَاظَبَ عَلَيْهِ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ (وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ فَكَانَ وُجُودُهُ بِهِ، وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، هُوَ يَقول: إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقول غَيْرُ مَقْبُولٍ، ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ.
وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ. لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا.
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ.
الشَّرْحُ:
(بَابُ الِاعْتِكَافِ):
قَالَ الْقُدُورِيُّ (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) وَالْحَقُّ خِلَافُ كُلٍّ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ، بَلْ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الِاعْتِكَافُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْمَنْذُورُ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا، وَإِلَى سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ وَهُوَ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا. وَدَلِيلُ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ» فَهَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ الْمَقْرُونَةُ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَتْ دَلِيلَ السُّنِّيَّةِ، وَإِلَّا كَانَتْ تَكُونُ دَلِيلَ الْوُجُوبِ. أَوْ نَقول: اللَّفْظُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّرْكِ ظَاهِرًا لَكِنْ وَجَدْنَا صَرِيحًا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ إلَى مَكَانِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ: مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ» هَذَا. وَأَمَّا اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَكَفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْآخِرَ» وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ» وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ فَلَا يُدْرَى أَيَّةُ لَيْلَةٍ هِيَ، وَقَدْ تَتَقَدَّمُ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ، هَكَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالشُّرُوحِ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهَا تَدُورُ فِي السَّنَةِ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَتَكُونُ فِي غَيْرِهِ فَجُعِلَ ذَلِكَ رِوَايَةً، وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنْ قَالَ: قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ عَتَقَ وَطَلُقَتْ إذَا انْسَلَخَ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَصَاعِدًا لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ الْعَامَ الْقَابِلَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِثْلُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ رَمَضَانَ الْآتِيَ وَلَيْسَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَازِمًا مِنْ التَّقْرِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَنَّهَا مِمَّا أَغْفَلَهَا الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَا يَنْبَغِي إغْفَالُهَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ لِشُهْرَتِهَا فَأَوْرَدْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ تَتْمِيمًا لِأَمْرِ الْكِتَابِ. وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ: قِيلَ هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْلَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَأَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَوْنِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي ذَلِكَ الرَّمَضَانُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْتَمَسَهَا فِيهِ، وَالسِّيَاقَاتُ تَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ وَأَلْفَاظَهَا كَقولهِ: إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. وَإِنَّمَا كَانَ يَطْلُبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ. وَمِنْ عَلَامَاتِهَا أَنَّهَا بَلْجَةٌ سَاكِنَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا قَارَّةٌ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا بِلَا شُعَاعٍ كَأَنَّهَا طَسْتٌ، كَذَا قَالُوا، وَإِنَّمَا أُخْفِيَتْ لِيَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهَا فَيَنَالَ بِذَلِكَ أَجْرَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا أَخْفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّاعَةَ لِيَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ قِيَامِهَا بَغْتَةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
قولهُ: (وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) هَذَا مَفْهُومُهُ عِنْدَنَا، وَفِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ إذْ هُوَ لُغَةً مُطْلَقُ الْإِقَامَةِ فِي أَيِّ مَكَان عَلَى أَيِّ غَرَضٍ كَانَ، قَالَ تَعَالَى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رُكْنَهُ اللَّبْثُ بِشَرْطِ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ مِنْ الشُّرُوطِ أَيْ كَوْنُهُ فِيهِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ مُطْلَقًا لَا عَلَى اشْتِرَاطِهِ لِلْوَاجِبِ مِنْهُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِلنَّفْلِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا إطْلَاقُ قولهِ: وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، إنَّمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى انْتِهَاضَ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَزِمَهُ تَرْجِيحُ هَذِهِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
قولهُ: (وَلَنَا قولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، أَوْ مِنْ سُوَيْد، وَضَعَّفَ سُوَيْدًا، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ: سَأَلْت هُشَيْمًا عَنْهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالت: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» قَالَ أَبُو دَاوُد: غَيْرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ لَا يَقول فِيهِ قَالَتْ: السُّنَّةُ. وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدِيلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: اعْتَكِفْ وَصُمْ وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَصُومَ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ عَنْ عَمْرٍو، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَالثِّقَاتُ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرٍو لَمْ يَذْكُرُوا الصَّوْمَ مِنْهُمْ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الصَّوْمِ، بَل: «إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلَةً فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا أَوْ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رُوِيَتْ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ وَتَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ فَيَجِبُ قَبُولُهَا فَالثِّقَةُ ابْنُ بَدِيلٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَالْمُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الصَّحِيحِ السَّنَدِ، فَإِنَّ رَفْعَهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ. وَمَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُسَيْدَ عَنْ عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ. فَقول ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلُزُومِهِ مَعَ أَنَّهُ رَاوِي وَاقِعَةَ أَبِيهِ يُقَوِّي ظَنَّ صِحَّةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ، وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» وَصَحَّحَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ. فَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَمَعَ جَهَالَتِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُهُ، بَلْ يَقِفُونَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَيُؤَيِّدُ الْوَقْفَ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ تَفَرُّدَ الرَّمْلِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: اجْتَمَعْت أَنَا وَابْنُ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ عَلَى امْرَأَتِهِ اعْتِكَافٌ نُذِرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا يَكُونُ اعْتِكَافٌ إلَّا بِصَوْمٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا، قَالَ: فَمِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَمِنْ عُمَرَ؟ قَالَ لَا، قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: فَانْصَرَفْت فَوَجَدْت طَاوُسًا وَعَطَاءً، فَسَأَلْتُهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَرَى عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامًا إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ.اهـ. فَلَوْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَرْفَعُهُ لَمْ يَقْصُرْهُ طَاوُسٌ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ يَخَفْ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقول عَطَاءٍ بِحُضُورِهِ ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ فَعَنْ ذَلِكَ اعْتَرَفَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ رَفْعَهُ وَهْمٌ ثُمَّ لَمْ يَسْلَمْ الْمَوْقُوفُ عَنْ الْمُعَارِضِ، إذْ قَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ، فَتَعَارَضَ عَنْ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ. وَدَفْعُ الْمُعَارَضَةِ عَنْهُ بِأَنْ يُجْعَلَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي قولهِ: إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ. الِاعْتِكَافَ فَيَكُونَ دَلِيلَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ دُونَ النَّفْلِ، وَيُخَصُّ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِهِ. وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الْمَنْذُورِ، وَالْمُعَمِّمُ لِاشْتِرَاطِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ الْمَرْفُوعُ، وَمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهَا مَوْقُوفًا قَالَتْ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ لِقولهِ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ. قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصِيَامٍ، وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ سُوَيْد، فَهَذِهِ كُلُّهَا تُؤَيِّدُ إطْلَاقَ الِاشْتِرَاطِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ قول مُحَمَّدٍ أَقَلُّ الِاعْتِكَافِ النَّفْلِ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ، وَجَعَلَ رِوَايَةَ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي النَّفْلِ ظَاهِرً الرِّوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَلَا يَحْضُرُنِي مُتَمَسَّكٌ لِذَلِكَ فِي السُّنَّةِ سِوَى حَدِيثِ الْقِبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ فِي الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ: حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ. فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِكَافِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَلَا صَوْمَ فِيهِ. وَفَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكَهُ لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلِاعْتِكَافِ بَلْ إنْهَاءً لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَلْزَمُهُ، وَحَقَّقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّمَا هُوَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ الصَّوْمَ لَا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِكَافُ التَّطَوُّعُ لَازِمًا فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَيْلًا فَقَطْ، وَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ تَبَعًا لِلنَّهَارِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقول مِنْ مُسْتَنَدِ إثْبَاتِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ هُوَ قولهُ فِي الْأَصْلِ: إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ تَارِكٌ لَهُ إذَا خَرَجَ وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْعَقْلِ الْقول بِصِحَّتِهِ سَاعَةً مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَصُمْ سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ دُونَهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ اعْتِبَارِ شَرْطٍ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْ مَشْرُوطِهِ، وَمَنْ ادَّعَاهُ فَهُوَ بِلَا دَلِيلٍ، فَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِلَا مُوجِبٍ، إذْ الِاعْتِكَافُ لَمْ يُقَدَّرْ شَرْعًا بِكَمِّيَّةٍ لَا يَصِحُّ دُونَهَا كَالصَّوْمِ، بَلْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ لَا يَفْتَقِرُ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً إلَى الْجُزْءِ الْآخَرِ وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ تَقْدِيرُ شَرْطِهِ تَقْدِيرَهُ لِمَا قُلْنَا. وَقول مَنْ حَقَّقَ الْوَجْهَ إنَّمَا ذَلِكَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ بَعِيدٌ عَنْ التَّحْقِيقِ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ. فَإِنَّ إفْسَادَ الِاعْتِكَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ إفْسَادَ الصَّوْمِ لِيَلْزَمَ قَضَاؤُهُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بِمَا لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَغَايَةُ مَا يُصَحَّحُ بِأَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ فَيَجِبُ لِذَلِكَ اسْتِئْنَافُ صَوْمٍ آخَرَ ضَرُورَةَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ لِلُزُومِهِ فِي الصَّوْمِ بَلْ بِالْعَكْسِ، فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إلَّا فِي مَنْذُورٍ أَفْسَدَهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي الْمَسْنُونِ أَعْنِي الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ بِنِيَّتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ أَنْ يَجِبَ قَضَاؤُهُ تَخْرِيجًا عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ فِي الشُّرُوعِ فِي نَفْلِ الصَّلَاةِ نَاوِيًا أَرْبَعًا لَا عَلَى قولهِمَا. وَمِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَنَّهُ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا أَوْ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ هَذَا الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ. وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ اسْتِيعَابِ النَّهَارِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَقَلُّهُ أَكْثَرُ النَّهَارِ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ لَزِمَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ قَضَاهُ. وَهَذَا أَوْجَهُ فَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ.
قولهُ: (وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ إلَخْ) ذَكَرَ وَجْهَهُ مِنْ الْمَعْنَى وَذَكَرْنَا آنِفًا وَجْهَهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَحَمْلُ صَاحِبِ التَّنْقِيحِ إيَّاهُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَكَفَ مِنْ ثَانِي الْفِطْرِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ. وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثٍ «فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ» عَلَيْهِ لَا لَهُ، لِأَنَّ مَدْخُولَ لَمَّا مَلْزُومٌ لِمَا بَعْدَهُ فَاقْتَضَى أَنَّهُ حِينَ أَفْطَرَ اعْتَكَفَ بِلَا تَرَاخٍ.

متن الهداية:
ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِقول حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلَاتِهَا فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِقول حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَخْ) أَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عُكُوفٌ؟ قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت، أَوْ حَفِظُوا وَأُنْسِيت، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: إنَّ أَبْغَضَ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِدَعُ، وَإِنَّ مِنْ الْبِدَعِ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الدُّورِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَخْبَرَنِي جَابِرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَّمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ». وَتَقَدَّمَ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
قولهُ: (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ) قِيلَ: أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْجَامِعِ، أَمَّا الْجَامِعُ فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُصَلَّ فِيهِ الْخَمْسُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَالنَّفَلُ يَجُوزُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ مَعْلُومٌ وَتُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالَ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ لَهُ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ» وَمَعْنَى هَذَا مَا رَوَاهُ فِي الْمُعَارَضَةِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصِحُّ» ثُمَّ أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ مَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ الْجَامِعُ. قِيلَ: إذَا كَانَ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي مَسْجِدِهِ أَفْضَلُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ، ثُمَّ كُلُّ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَكْثَرَ.
قولهُ: (أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا) أَيْ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ اعْتَكَفَتْ فِي الْجَامِعِ أَوْ فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَامِعِ فِي حَقِّهَا جَازَ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ ذَكَرَ الْكَرَاهَةَ قَاضِي خَانْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا وَلَا إلَى نَفْسِ الْبَيْتِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا إذَا اعْتَكَفَتْ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَلَا تَعْتَكِفُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا، وَإِذَا أَذِنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا وَلَا يَمْنَعَهَا، وَفِي الْأَمَةِ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْإِذْنَ مَعَ الْكَرَاهَةِ الْمُؤَثِّمَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَسَاءَ وَأَثِمَ.

متن الهداية:
(وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ) أَمَّا الْحَاجَةُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تَقْضِيَتِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطُّهُورِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ، وَنَحْنُ نَقول: الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ، وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فَالضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ فِي الْخُرُوجِ، وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ سِتًّا، الْأَرْبَعُ سُنَّةٌ، وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا فَأُلْحِقَتْ بِهَا، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً بِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَالَا: لَا يُفْسِدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالت: «كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَيْضًا.
قولهُ: (الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ) هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُجِيزُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَأَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَلَا إذْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ أَوْ دُونَهَا إذَا كَانَ جَامِعًا فَلَا يَكُونُ التَّمَسُّكُ عَلَى الْعُمُومِ بِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} كَمَا فَعَلَهُ الشَّارِحُونَ صَحِيحًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ إلْزَامًا بِالدَّلِيلِ، فَإِذَا صَحَّ فَبَعْدَ ذَلِكَ الضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ لِلْخُرُوجِ مَعَ بَقَاءِ الِاعْتِكَافِ وَهِيَ هُنَا مُتَحَقِّقَةٌ نَظَرًا إلَى الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ.
قولهُ: (وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا) يَنْبَغِي جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَطْفًا عَلَى إدْرَاكِهَا مِنْ بَابِ {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} وَ: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} بِمَعْنَى قَابِضَاتٍ وَجَاعِلُ، فَيَنْحَلُّ إلَى أَنْ يَخْرُجَ فِي وَقْتٍ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَصَلَاةِ أَرْبَعٍ أَوْ سِتٍّ قَبْلَهَا يُحَكِّمُ فِي ذَلِكَ رَأْيَهُ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي خُرُوجِهِ عَلَى إدْرَاكِ السَّمَاعِ لِلْخُطْبَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا تُصَلَّى قَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ.
قولهُ: (وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ) صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَجْزَأَهُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ التَّحِيَّةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهَا فِي تَحَقُّقِهَا وَكَذَا السُّنَّةُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ إمَّا ضَعِيفَةٌ أَوْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ السُّنَّةَ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بَعْدَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ مِمَّا يُعْرَفُ تَخْمِينًا لَا قَطْعًا، فَقَدْ يَدْخُلُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ ظَنِّهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسُّنَّةِ فَيَبْدَأَ بِالتَّحِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَصْدُقُ الْحَزْرُ.
قولهُ: (وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ) مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَهَا أَرْبَعٌ، وَقولهُمَا سِتٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ فِي السِّتِّ عَلَى أَنَّهُ قول أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَقَدَّمْنَا الْوَجْهَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ.
قولهُ: (وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا) يَعْنِي فَتَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ لَهَا كَمَا تَحَقَّقَتْ لِنَفْسِ الْجُمُعَةِ فَلَا يَكُونُ بِصَلَاتِهَا فِي الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ الْأَوْلَى، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْعُدَ فِي الْجَامِعِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ الَّتِي جَوَّزَتْ خُرُوجَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَمَرَّ هُوَ فِيهِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِمُجَوِّزٍ فَلَمْ يُبْطِلْهُ، وَمُقَامُهُ بَعْدَ الْحَاجَةِ فِي مَحَلِّ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ فِي مَكَانِ الشُّرُوعِ لِأَنَّ إتْمَامَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي مَحَلِّ الشُّرُوعِ وَهِيَ عِبَادَةٌ تَطُولُ أَحَزُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْهُ فِي مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّ فِي هَذَا تَرْوِيحًا لَهَا مِنْ كَدِّ التَّقَيُّدِ بِالْعِبَادَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ فِي مَكَان تَقَيَّدَ بِهِ حَتَّى يُتِمَّهَا فَيَكُونُ كَالْإِخْلَافِ بَعْدَ الِالْتِزَامِ.
قولهُ: (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) وَتَقْيِيدُهُ فِي الْكِتَابِ الْفَسَادُ بِمَا إذَا كَانَ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ عُذْرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ لَا يَفْسُدُ. وَعَلَيْهِ مَشَى بَعْضُهُمْ فِيمَا إذَا خَرَجَ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. أَوْ أَخْرَجَهُ سُلْطَانٌ. أَوْ خَافَ عَلَى مَتَاعِهِ فَخَرَجَ، وَحُكِمَ بِالْفَسَادِ إذَا خَرَجَ لِجِنَازَةٍ وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، أَوْ لِنَفِيرٍ عَامٍّ أَوْ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ. وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ الْخُرُوجَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بِأَنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ أَوْ الْغَرِيمُ. أَوْ خَرَجَ لِبَوْلٍ فَحَبَسَهُ الْغَرِيمُ سَاعَةً. أَوْ خَرَجَ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعَلَّلَ قَاضِي خَانْ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ بِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى عَنْ الْإِيجَابِ، فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ، وَعَنْ هَذَا فَسَدَ إذَا عَادَ مَرِيضًا أَوْ شَهِدَ جِنَازَةً. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّهْيُ عَنْهُ مُطْلَقًا، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَيْضًا يَفْسُدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ كَالْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ وُقُوعُ تَعَيُّنِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى وَاحِدٍ مُعْتَكِفٍ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ. فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا فَكَانَتْ مُسْتَثْنَاةً. وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ جِهَادٍ عَمَّ نَفِيرُهُ يَفْسُدُ وَلَا يَأْثَمُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ إلَى آخَرَ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَالِبَ الْوُقُوعِ، وَنَصَّ عَلَى فَسَادِهِ بِذَلِكَ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ. وَتَفَرُّقُ أَهْلِهِ وَانْقِطَاعُ الْجَمَاعَةِ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ. وَنَصَّ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فَقَالَ فِي الْكَافِي: وَأَمَّا فِي قول أَبِي حَنِيفَةَ فَاعْتِكَافُهُ فَاسِدٌ إذَا خَرَجَ سَاعَةً لِغَيْرِ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ جُمُعَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ لَا لِلْبُطْلَانِ وَإِلَّا لَكَانَ النِّسْيَانُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِفْسَادِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا اعْتِبَارُ الصِّحَّةِ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لِيَغْسِلَهُ أَوْ يُرَجِّلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَإِنْ غَسَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ لَا بَأْسَ بِهِ. وَصُعُودُ الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ لَا يُفْسِدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْأَذَانِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى. أَمَّا غَيْرُهُ فَيُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ قول الْكُلِّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقول أَقْيَسُ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ.
وَفِي شَرْحِ الصَّوْمِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ: الْمُعْتَكِفُ يَخْرُجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاهِدٌ آخَرَ فَيَتْوَى حَقُّهُ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِحَجٍّ لَزِمَهُ إذْ لَا يُنَافِيهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ إلَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ وَيَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ. وَلَوْ احْتَلَمَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَلْوِيثٍ فَعَلَ، وَإِلَّا خَرَجَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ يَعُودُ.
قولهُ: (وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ) يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي رَجَحَ فِيهَا الْقِيَاسُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ. ثُمَّ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْ عَدَمِ أَمْرِهِ إذَا خَرَجَ إلَى الْغَائِطِ أَنْ يُسْرِعَ الْمَشْيَ، بَلْ يَمْشِي عَلَى التُّؤَدَةِ وَبِقَدْرِ الْبُطْءِ تَتَخَلَّلُ السَّكَنَاتُ بَيْنَ الْحَرَكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي فَنِّ الطَّبِيعَةِ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ قَدْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ فَجَعَلْنَا الْفَاصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ أَقَلَّ مِنْ أَكْثَرِ الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ لِأَنَّ مُقَابِلَ الْأَكْثَرِ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَأَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى السُّوقِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَوْ الْقِمَارِ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ قولهُمَا، ثُمَّ قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مُعْتَكِفٌ. قَالَ: مَا أَبْعَدَك عَنْ الْعَاكِفِينَ» وَلَا يُتِمُّ مَبْنَى هَذَا الِاسْتِحْسَانُ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي يُنَاطُ بِهَا التَّخْفِيفُ هِيَ الضَّرُورَةُ اللَّازِمَةُ أَوْ الْغَالِبَةُ الْوُقُوعِ، وَمُجَرَّدُ عُرُوضِ مَا هُوَ مُلْجِئٌ لَيْسَ بِذَلِكَ. أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ عَلَى وَجْهٍ عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ لَا يُقَالُ بِبَقَاءِ صَلَاتِهِ كَمَا يُحْكَمُ بِهِ مَعَ السَّلَسِ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَالْإِلْجَاءِ وَسُمِّيَ ذَلِكَ مَعْذُورًا دُونَ هَذَا مَعَ أَنَّهُمَا يُجِيزَانِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَصْلًا. إذْ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَنَّ خُرُوجَهُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ لَا يُفْسِدُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا بَلْ لِلَّعِبِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْرَاعِ فَلَيْسَ لِإِطْلَاقِ الْخُرُوجِ الْيَسِيرِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَنَاةَ وَالرِّفْقَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى طَلَبَهُ فِي الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُفَوِّتُ بَعْضَهَا مَعَهُ بِالْجَمَاعَةِ. وَكُرِهَ الْإِسْرَاعُ وَنُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُحَصِّلًا لَهَا كُلَّهَا فِي الْجَمَاعَةِ تَحْصِيلًا لِفَضِيلَةِ الْخُشُوعِ إذْ هُوَ يَذْهَبُ بِالسُّرْعَةِ وَالْعَاكِفُ أَحْوَجُ إلَيْهَا فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَقَيِّدًا بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ، فَهُوَ فِي حَالِ الْمَشْيِ الْمُطْلَقِ لَهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ الِانْتِظَارُ، وَالْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا فَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى تَحْصِيلِ الْخُشُوعِ فِي حَالِ الْخُرُوجِ، فَكَانَتْ تِلْكَ السَّكَنَاتُ كَذَلِكَ، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ مِنْ نَفْسِ الِاعْتِكَافِ لَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْقَلِيلَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيرُهُ بِمَا هُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ تَمَامِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، بَلْ بِمَا يُعَدُّ كَثِيرًا فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا مَعْنَى الْعُكُوفِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ يُنَافِيهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ) لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ) أَيْ لِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ الْأَكْلِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالتِّجَارَةِ أَوْ اسْتِكْثَارِ الْأَمْتِعَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يُجَاوِزُ مَوَاضِعَهَا.

متن الهداية:
(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ إلَى أَنْ قَالَ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ».
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ) فَإِنَّهُ أَخْلَصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي إحْضَارِ السِّلْعَةِ شَغْلُهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
قولهُ: (لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ») رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاِتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ. وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ».اهـ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ: حَدِيثَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ» عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سَمِعَ مَكْحُولٌ مِنْ وَاثِلَةَ وَأَنَسَ. وَأَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ ذَكَرَهُ فِي الزُّهْدِ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ. وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّه: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ، أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالنَّسَائِيُّ رَوَاهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِتَمَامِهِ، وَفِي السُّنَنِ اخْتَصَرَهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقول: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقولوا: لَا رَبَّحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقولوا لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ: لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ، وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ، وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا» وَأُعِلَّ بِزَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا لِلْمَسْجِدِ أَحْكَامًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ تُنْظَرُ هُنَاكَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) لِأَنَّ صَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ شَرِيعَتِنَا لَكِنَّهُ يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) أَيْ الصَّمْتُ بِالْكُلِّيَّةِ تَعَبُّدًا بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال: «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَأَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ وَعَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ» وَيُلَازِمُ التِّلَاوَةَ وَالْحَدِيثَ وَالْعِلْمَ وَتَدْرِيسَهُ، وَسِيَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَخْبَارَ الصَّالِحِينَ، وَكِتَابَةَ أُمُورِ الدِّينِ.

متن الهداية:
(وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ) لِقولهِ تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} (وَ) كَذَا (اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مَحْظُورُهُ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ (وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى يَفْسُدَ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (لِأَنَّهُ) أَيْ كُلًّا مِنْهُمَا (مِنْ دَوَاعِيهِ) فَمَرْجِعُ ضَمِيرِ دَوَاعِيهِ الْوَطْءُ وَضَمِيرُ مَحْظُورِهِ الِاعْتِكَافُ. وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْحُكْمُ بِاسْتِلْزَامِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ ابْتِدَاءً فِي الْعِبَادَةِ حُرْمَةَ دَوَاعِيهِ وَبِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهَا حُرْمَةَ الدَّوَاعِي إذَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ ثَابِتَةً ضِمْنَ ثُبُوتِ الْأَمْرِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ الضِّمْنِيِّ لِضِدِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَالْقَصْدِيِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ثُبُوتَ مَا لَهُ الدَّوَاعِي عِنْدَ ثُبُوتِهَا مَعَ قِيَامِ الْحَاجِزِ الشَّرْعِيِّ عَنْهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا وَلَا غَالِبًا غَيْرَ أَنَّهَا طَرِيقٌ فِي الْجُمْلَةِ فَحُرِّمَتْ لِلتَّحْرِيمِ الْقَصْدِيِّ لِمَا هِيَ دَوَاعِيهِ لَا الضِّمْنِيِّ، إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، بَلْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ إلَّا تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَلْحُوظٍ فِي الطَّلَبِ إلَّا لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى دَوَاعِيهِ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَحُرْمَةُ الْوَطْءِ فِي الِاعْتِكَافِ قَصْدِيٌّ إذْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّهْيِ الْمُفِيدِ لِلْحُرْمَةِ ابْتِدَاءً لِنَفْسِهِ وَهُوَ قوله تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وَمِثْلُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاسْتِبْرَاءِ قَالَ تَعَالَى: {فَلَا رَفَثَ} الْآيَةَ.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» فَتَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فِيهَا، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ ضِمْنِيٌّ لِلْأَمْرِ الطَّالِبِ لِلصَّوْمِ، وَهُوَ قوله تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ}، {وَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْكَفِّ، فَحُرْمَةُ الْوَطْءِ تَثْبُتُ ضِمْنًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ هِيَ الثَّابِتَةُ أَوَّلًا بِالصِّيغَةِ. ثُمَّ يَثْبُتُ وُجُوبُ الْكَفِّ عَنْهُ ضِمْنًا فَلِذَا يَثْبُتُ سَمْعًا حِلُّ الدَّوَاعِي فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابَيْهِمَا.
قولهُ: (وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ) أَوْ رَدَّ لِمَ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ بِظَاهِرِ قوله تَعَالَى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ}؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَجَازَهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ مُرَادٌ فَتَبْطُلُ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ. وَهُوَ مُشْكِلٌ لِانْكِشَافِ أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ خَاصَّةٌ فَيَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُبْلَةِ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ وَالْجِمَاعِ مُتَوَاطِئًا أَوْ مُشَكِّكًا، فَأَيُّهَا أُرِيدَ بِهِ كَانَ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ كُلُّ اسْمٍ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ فَرْدَانِ مِنْ مَفْهُومِهِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ سِيَاقُ النَّهْيِ وَهُوَ يُفِيدُ الْعُمُومَ. فَيُفِيدُ تَحْرِيمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُبَاشَرَةِ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ. هَذَا وَإِذَا فَسَدَ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَجَبَ قَضَاؤُهُ إلَّا إذَا فَسَدَ بِالرِّدَّةِ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَيْسَ غَيْرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ أَصْلُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ التَّتَابُعِ، وَسَوَاءٌ أَفْسَدَهُ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ إلَّا الرِّدَّةَ، أَوْ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ، وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَلِقولهِ تَعَالَى: {إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ (مُتَتَابِعَةً وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ) لِأَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَيَجِبُ عَلَى التَّفَرُّقِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَى التَّتَابُعِ (وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ) بِأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا (لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً) وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْقَلْبِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: شَهْرًا وَلَمْ يَنْوِهِ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ يَفْتَتِحُهُ مَتَى شَاءَ بِالْعَدَدِ لَا هِلَالِيًّا، وَالشَّهْرُ الْمُعَيَّنُ هِلَالِيٌّ، وَإِنْ فَرَّقَ اسْتَقْبَلَ.
وَقَالَ زُفَرُ: إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَشَهْرًا يُلْحَقُ بِالْإِجَارَاتِ وَالْأَيْمَانِ فِي لُزُومِ التَّتَابُعِ وَدُخُولِ اللَّيَالِي فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَبِالصَّوْمِ فِي عَدَمِ لُزُومِ الِاتِّصَالِ بِالْوَقْتِ الَّذِي نَذَرَ فِيهِ، وَالْمُعَيِّنُ لِذَلِكَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَفِي التَّارِيخِ كُتِبَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ، وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا فِيهِمَا وَقَالَ تَعَالَى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ} وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَتَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى فَيَدْخُلُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَيَخْرُجُ بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ آخِرِ الْأَيَّامِ الَّتِي عَدَّهَا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ بِالْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ، وَذُكِرَ الْيَوْمُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ فَلِهَذَا إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ بِخِلَافِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الصَّوْمِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَلْزَمُهَا بِيَوْمِهَا، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلَةِ الْيَوْمَ لَزِمَهُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ قَضَاءَ أَيَّامِ حَيْضِهَا بِالشَّهْرِ فِيمَا إذَا نَذَرَتْ اعْتِكَافَ شَهْرٍ فَحَاضَتْ فِيهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِهِ، وَعَنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ قَالُوا: لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَوْ أَصَابَهُ عَتَهٌ أَوْ لَمَمٌ اسْتَقْبَلَ إذَا بَرْءًا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ وَفِي الصَّوْمِ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَيَقْضِي مَا بَعْدَهُ، فَأَفَادُوا أَنَّ الْإِغْمَاءَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَ الصَّوْمِ وَهُوَ النِّيَّةُ. وَالظَّاهِرُ وُجُودُهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ فَلَا يَقْضِيهِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الْفَرْقِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِظَارُ يَنْقَطِعُ بِالْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي تَجِبُ بَعْدَ الْإِغْمَاءِ بِخِلَافِ الْإِمْسَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالنِّيَّةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الصَّوْمِ.
قولهُ: (لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَوْمِ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَنَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِيَ أَوْ قَلَبَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، لَيْسَ بِاسْمٍ عَامٍّ كَالْعَشَرَةِ عَلَى مَجْمُوعِ الْآحَادِ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ الْعَدَدِ أَصْلًا، كَمَا لَا تَنْطَلِقُ الْعَشَرَةُ عَلَى خَمْسَةٍ مَثَلًا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، أَمَّا لَوْ قَالَ: شَهْرًا بِالنَّهْرِ دُونَ اللَّيَالِي لَزِمَهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ اسْتَثْنَى فَقَالَ: شَهْرًا إلَّا اللَّيَالِيَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثِينَ نَهَارًا، وَلَوْ اسْتَثْنَى لِأَيَّامٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْبَاقِيَ اللَّيَالِي الْمُجَرَّدَةَ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا لِمُنَافَاتِهَا شَرْطَهُ، وَهُوَ الصَّوْمُ.

متن الهداية:
(وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمُهُ بِلَيْلَتَيْهِمَا).
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ، وَفِي الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقول: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى، كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي نُسَخِ شُرُوحِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي حُجَّتِهِمَا بِقولهِ: وَجْهُ الظَّاهِرِ.
قولهُ: (لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ) فَكَانَ لَفْظُهُ وَلَفْظُ الْمُفْرَدِ سَوَاءً، ثُمَّ فِي لَفْظِ الْمُفْرَدِ بِأَنْ قَالَ يَوْمًا لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا التَّثْنِيَةُ، إلَّا أَنَّ الْمُتَوَسِّطَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ الِاتِّصَالِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى.
قولهُ: (أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ) وَلِذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسلام: «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَلَوْ قَالَ: لَيْلَتَيْنِ صَحَّ نَذْرُهُ إذَا لَمْ يَنْوِ اللَّيْلَتَيْنِ خَاصَّةً، بَلْ نَوَى الْيَوْمَيْنِ مَعَهُمَا، ثُمَّ خَصَّ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُثَنَّى، وَعَنْهُ فِي الْجَمْعِ مِثْلُ الْمُثَنَّى، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْتَهِضُ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ إدْخَالِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى فِي الْجَمْعِ أَيْضًا.
فَرْعٌ:
لَوْ ارْتَدَّ عَقِيبَ نَذَرَ الِاعْتِكَافِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ مُوجَبُ النَّذْرِ، لِأَنَّ نَفْسَ النَّذْرِ بِالْقُرْبَةِ قُرْبَةٌ فَيَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ. وَنَذْرُ اعْتِكَافِ رَمَضَانَ لَازِمٌ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِي أَيِّ رَمَضَانَ شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَهُ لَزِمَهُ فِيهِ بِعَيْنِهِ فَلَوْ صَامَهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ لِلنَّذْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ فَلَا يُقْضَى وَهُوَ قول زُفَرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَكِفَ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ بِاتِّفَاقِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَعْتَكِفْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الِاعْتِكَافَ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَكُلُّ مُعَيَّنٍ نُذِرَ اعْتِكَافُهُ كَرَجَبٍ وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مَثَلًا فَمَضَى وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ، فَلَوْ أَخَّرَ يَوْمًا حَتَّى مَرِضَ وَجَبَ الْإِيصَاءُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ لِلصَّوْمِ لَا لِلَّبْثِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصَّوْمِ، وَالنَّذْرُ بِاعْتِكَافِ أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ فِي بَدَلِهَا لِأَنَّ شَرْطَهُ الصَّوْمُ وَهُوَ فِيهَا مُمْتَنِعٌ، فَلَوْ اعْتَكَفَهَا صَائِمًا أَثِمَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ. وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ تَعَجَّلَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ قَبْلَهُ عَنْهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ سَنَةَ كَذَا فَحَجَّ سَنَةً قَبْلَهَا، وَكَذَا النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذَا صَلَّاهَا قَبْلَهَا.
وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا أَوْ أُصَلِّيَ غَدًا فَصَامَ الْيَوْمَ أَوْ صَلَّى جَازَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَجَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتَصَدَّقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنْهُ أَجْزَأَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فَصَلَّاهُمَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ جَازَ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْمُضَافِ إلَى الزَّمَانِ وَالْمُضَافِ إلَى الْمَكَانِ.
وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ دُونَ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَجُزْ.اهـ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ مِثْلُ مَا عَنْ زُفَرَ، وَالْخِلَافُ فِي التَّعْجِيلِ مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّ تَرْكَ الْخِلَافِ أَنْسَبُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ التَّعْجِيلِ بَعْدَ السَّبَبِ، وَكُلٌّ مَنْذُورٌ فَإِنَّمَا سَبَبُ وُجُوبِهِ النَّذْرُ، وَلَا تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ مَنَعَهُمَا بَعْدَ الْإِذْنِ صَحَّ مَنْعُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ مُسِيئًا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: يَكُونُ آثِمًا، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا لَزِمَهُ وَلِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْهُ فَإِذَا عَتَقَ يَقْضِيهِ، وَكَذَا إذَا نَذَرَتْ الزَّوْجَةُ صَحَّ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، فَإِنْ بَانَتْ قَضَتْ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى مَنْعُ الْمُكَاتَبِ، وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ سِبَابٌ وَلَا جِدَالٌ وَلَا سُكْرٌ فِي اللَّيْلِ، وَيُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ الرِّدَّةُ وَالْإِغْمَاءُ إذَا دَامَ أَيَّامًا، وَكَذَا الْجُنُونُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا، فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ؟ فِي الْقِيَاسِ لَا كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصِحَابِهِ وَسَلَّمَ.